وصلنا في قصتنا الى وصول علي و بشير الى موريطانيا حيث كان الهدف الأساسي من الرحلة , مواصلة الدراسة الجامعية , و لكن و بحكم المتعود بشيء ما يصعب عليه كثيرا تقبل الواقع إذا تغير و هذا ما حصل للصديقين , وجدا الحياة صعبة جدا في موريطانيا , البنية الأساسية متدنية جدا , كل الوسائل المتعود عليها في تونس اختفت تماما , شكلا و مضمونا , و كانت هنالك اختلافات كثيرة و كبيرة , إقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا , كل هذا دفع الصديقين لأخذ قرار لا أدري كيف وقع الإختيار عليه , و وفق أي مقياس , و لكن تمر بالإنسان فترات حياتية يقرر فيها أشياء تبدو له غريبة كل الغرابة بعد مضي بعض الوقت و قد يدفع حياته ثمنا لهذا الإختيار الطائش , اتفق الصديقان على تغيير كلي للمسيرة بالدوران ضد عقارب الساعة و بشكل سريع , كان اختيار علي و بشير القيام برحلة للعمل في جزر الموريس , .... نعم جزر الموريس , و قد يكون الكثير منكم لا يعرفها , هذه الجزر تقع في أقصى الجنوب الشرقي للقارة الإفريقية , بالضبط شرق جزيرة مدغشقر , و بمسافة تقدر بـ 900 كم , و أول من زار جزر الموريس كان الفينيقيون الآتين من لبنان في سنوات 2000 قبل الميلاد , و وصلها العرب في القرن الخامس ميلادي , و بها رفاهية كبرى في العيش و لها طابع غربي متميز و لهذا توجه اليها بطلا رحلتنا من أجل التنعم سياحيا و ماديا .
كان الإتفاق بينهما أن يقوما بالرحلة برا من دولة الى دولة ببساطة كبيرة , نظرا الى خريطة إفريقيا , تصوراها صغيرة , و آمنا بأن الإرادة من الممكن أن توصلهما الى جزر الموريس , أبعد نقطة في إفريقيا و في ظل تطور الإتصالات الحديثة و القدرة السريعة في تحويل الأموال و برمجا على البقاء على خط اتصال دائم بأسرة بشير أو أقاربه بفرنسا للتمويل المالي عند الضرورة , و أقتنعا بما توصلا اليه , و هذه ميزة تطبع تصرفات الشباب , الإقتناع بالرأي بسرعة دون تحديد كاف للمصاعب و العواقب . و بدات الرحلة و أمتطى الصديقان وسائل النقل البري باتجاه دولة مالي المحاذية لموريطانيا ,و تمكنا من عبور كل التراب المالي و بصعوبة كبيرة لأن الدولة كانت فقيرة و كل آليات سهولة العيش منعدمة , و كانت فرصة لعلي و البشير لتدارك صعوبة الرحلة , و المشاق الكبيرة التي اعترضتهما كانت إنذارا لاستحالة المواصلة لشابين معدمين في اتجاه دولة بعيدة جدا , و لكن كان قدر الله هو الغالب و واصل بطلا قصتنا الطريق , و عبرا الحدود الفاصلة بين مالي و النيجر , وصولا الى عاصمة النيجر نيامي , حيث دخلا مرحلة إستراحة في انتظار تقرير المرحلة القادمة , و وجدا الأحوال في النيجر في أسوأ حال , و تعتبر موريطانيا أو مالي جنة مقارنة بها و تأكد الصديقان من استحالة المواصلة لأن المال لم يعد كافيا لعبور دولة أخرى فما بالك بعشرات الدول , و قررا بعد مدة من التفكير العميق الإستقرار مؤقتا في المكان الذي وصلا اليه , و مواصلة الدراسة في جامعة من جامعاتها , و عرفا عن النيجر ما يدمي القلب فمآسي النيجر فاقت التصور , فهي تتعرض دائما لموجات من الجفاف الشديد تاتي على الأخضر و اليابس مما جعل الأوضاع هناك ماساوية لدرجة كبيرة و بقيت النيجر تتخبط وحيدة رغم أنها دولة إسلامية , و يكفي أن تعرف أن أكثر من 85 في المائة من سكانها مسلمون و هي عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي و أكثر أرضها صحراء , و نسبة الصحراء تفوق الثلاثة أرباع , و تصل الأوضاع أحيانا لتصبح أوراق الأشجار الغذاء الرئيسي للعائلات , و تعمد النسوة الى حفر مساكن النمل لإستخراج الحبوب التي خزنت بها , و عندما تصل الأوضاع المعيشية بالشخص للطمع في نملة فلكم تصور باقي الصورة , إنتشار لكل مساوئ المجتمعات المتخلفة من مخدرات الى الدعارة الى التجارة بأي شيء من أجل ابسط شيء , إتصل علي و صديقة بعديد الجامعات , و لكن الأوضاع كانت في القاع , التعليم متردي , الطالب لا يحمل من كلمة طالب سوى الإسم . وجدا الدراسة تمر بحالة ركود غريبة , و هو ليس ركودا و لكن شللا كاملا أصابها في العمق , فالدراسة متوقفة لأسباب عديدة و مختلفة , بعضها مفهوم و بعضها غير واضح الملامح إطلاقا , و قد يكون من حظ الصديقين العاثر أن وصلا النيجر في تلك الفترة و قد تكون من أصعب الفترات التي مر بها البلد , كانت الأجساد تتحرك و لكن بلا روح , الناس تتكلم و لكن لمجرد الكلام ليس الا , كان الإسلام هو دين الشعب و لكن كان الإسلام مجرد شعار ليس أكثر و كم فوجئا بحالة الإنحلال الأخلاقي المتفشي هناك نتيجة الفقر الرهيب الذي لا يرحم , و كانت الصورة تشبه تماما قطيعا من الأغنام في مكان فسيح و داخل هذا القطيع يمارس كل شيء , وجد علي و صديقة الجامعة اسما ولم يجدا الجامعة منبرا للعلم , كانت العديد من الطالبات بابنائهن المولودين بطرق الله أعلم بها يسكنون الحرم الجامعي , كانت القدور تغلي و الخبز يعد في الحرم الجامعي نفسه , الحرم الجامعي بقدره العالي أصبح مأوى للطلبة الفقراء و المشردين من عامة الشعب ممن دفعتهم الحاجة لطريق مغلق لم يجدوا له منفذا , توقف الدراسة أجبر الصديقين على إعادة الحسابات جملة و تفصيلا , إنتظرا شهرا كاملا عسى أن تجد المشاكل حلا و لكن لا حياة لمن تنادي , كانت المشاكل الإقتصادية و الإجتماعية أكبر من أن يتقدم فيها حلم الصديقين أنملة واحدة , و المال بدأ ينفذ رويدا رويدا , حتى وصل الى مرحلة لا يكفي للرجوع بواحد فما بالك باثنين , لم يجرؤ علي و لا صاحبه في الإتصال بأي مسؤول تونسي أو عربي , لأنه ببساطة لم و لن يوجد مسؤول عاقل يصدق رواية الدراسة بالنيجر أو السفر الى جزر الموريس , و ستفتح أبواب يصعب على أحد غلقها بعد ذلك , كان الصديقان في تلك المدة يقتصدان لدرجة حدود الإقتصاد في النفقة , و النفقة تهم الأكل فقط لأن المبيت موجود في المبيت الجامعي , المهم أن تخفي رأسك في أي ركن فيه و الصباح آت لتبدأ الحياة من جديد , كل اتصالات علي و بشير بالأسرة انقطعت لأن الإتصالات كانت بدائية جدا و بالكاد تنطق لينقطع الإتصال , فشلت كل المساعي للرجوع الى أرض الوطن بشكل سليم و آمن , و بقي الصديقان في انتظار الفرج من الله سبحانه و تعالى , و تعود الصديقان على البشرة السمراء حتى اصبح كل منهما يستغرب شكله في المرآة , و تواصلت الحياة صعبة المنال في ظل تلك الأوضاع , حتى فاقت الشهر و هي مدة كافية لتقضي على الموارد المالية البسيطة لعلي و بشير , و في قمة تردي الحالة وقف الصديقان على حالة متردية أكثر من حالتهما , و كان ذلك عندما كانا يتسكعان او يتنزهان بالمعنى الجميل للمعنى في سوق أسبوعية بالقرب من المبيت الجامعي , صدفة أبصرا أمرأة جميلة لها ملامح أجنبية , و لأول مرة منذ أكثر من شهر يشاهدان قشرة مخالفة للقشرة السمراء , كانت تلبس اللباس التقليدي الخاص بالنيجر و كحب اطلاع حياها بشير باللغة الفرنسية و حيته كذلك بنبرة حزينة و بلهجة تبتعد كثيرا عن نطق أهالي النيجر , و اكتشف الصديقان أنهما أمام حالة غريبة فاقت قصتهما ,و كاد يغمى عليهما و هما يعرفان موطنها الأصلي , كانت المرأة تونسية و من عائلة راقية بالمعنى العصري للكلمة , و اكتشفا مصيبتها التي تدمي القلب , مصيبة كل فتاة تغريها المظاهر و تدخل المجهول ضد رغبة الجميع , امرأة تونسية من عائلة غنية مرمية في قلب النيجر و في حالة غريبة , و بقصة تبكي العيون , فقررا مساعدتها رغم أنهما أولى بالمساعدة ,و تلك ميزة المسلم تجده في قلب المأساة يهرع لمساعدة أخاه المسلم .
و قد يقول أحدكم و لماذا تحكي لنا هذه القصة , ببساطة لأني وجدت فيها عبرة للعديد منا , و قد تساعد في فهم البعض من الأشياء مهما كانت بسيطة
ما هي قصة هذه المراة ؟ و ماذا تفعل في النيجر ؟ و ما دور بطلي قصتنا في تتمة احداثها ؟
كل ذلك سأرويه لكم في الجزء القادم إن شاء الله