في هذه الأثناء و حيث بدا الحوار مسموعا ابتعدت منال خطوات عن هديل و هي تعّدل فستانها الأزرق الذي استباحته هباتُ الرياح ، تم اتكأت على الجدار الخارجي للحديقة حيث لم تسلم من نظرات المارة الذين اختلسوا النظر لصاحبة الحذاء الأبيض ذو الكعب العالي و الشعر الأشقر المتمايل مع الريح.
- يبدو لي من صوتك أن مزاجك سيئ اليوم، عموما أنا من تجب أن تسألك ما الخطب !حين أعادت الهاتف لحقيبتها، رفعت هديل رأسها اتجاه منال لكن سرعان ما ارتد بصرها بعنف لحظة ارتطامه بالموج الأزرق الذي هاج من نظرات منال المتسائلة بصرامة: من ندى؟
طأطأت هديل رأسها بعد أن طوت منال الخطوات التي كانت قد ابتعدتها قبلا و أعادت لها أوراق المذكرة التي حظت من جديد بحنان الذراعين و تابعتِ الفتاتان خطواتهما،
غير أن جُعبة منال سرعان ما انفجرت بسؤال قاس حين لم تحظى من هديل بغير الصمت:
- أخبريني هديل، من ندى هذه !؟ أتراها صديقة في السر ؟؟
تنهدت هديل توقظ فيها كبرياءً ذابل و أجابت و قد انفلتت من أهدابها دمعتين حارّتين:
+ لعل قلبي استشعر فراقكما فخان العهد بصديقة أخرى..!
كان رد هديل موقظا للحقيقة التي تناستها منال بسبب غيرة الصداقة التي امتزجت لحظة السؤال ببعض الأنانية،
فاستدركتْ منال بحياء :
- اعذريني هديل، فقد غفلتُ أني أنا الأخرى سأترككِ و مثلما سأغادر هذه المدينة قد أترك البلد،
تجرعت هديل الصدمة الثانية ككأس الخمر الأخيرة؛ خمر دموع تعتـّـقت بطول الوجع، خمر جراحٍ لم تخلو ترنيمة مسائية حزينة من احتساء نزيفها و الرقص على عزف أنينها..
و تمتمت هديل بصوت خافت كمن تكلّم نفسها:
+ كما لا أمل لعلاء بعودتك لا أمل لهديل بوصال صديقتيها..
صاحت لحظتها منال :
- هكذا إذن أيتها الصديقة الغامضة، من هذه الزاوية تنظرين!!
عموما أنا لن أعلق على ما قلتِ لأني أعلم مقدار الألم الذي تحسينه، و لكن، و من أجلك اسمعي منّي هذه الكلمات :
تابعت منال كلامها لكن برقة و حنان كبيرين :
- حاولي يا هديل حين يحل هذا المساء أن تتخلصي من أي جراح لربما لست أنا و صفاء أول محطـّاتها،
رجاءَ، و إن كان كلامي قد يبدو غريبا ،حاولي في صمت الليل أن تصرخي لطالما لم تستطع شفتيكِ أن تعاتب و تبوح علنا بالألم أو أن تشاركنا به أو حتىّ أن تعذرنا حين أفضنا كأسه..
صمتت منال لبرهة ثم تابعت و قد توقفت خطواتهما :
- جُلُّ ما أخشاه يا هديل أن يؤذيكِ صمتكِ هذا يوما ، فنفقد قلبا علّمنا أن نترك للمشاعر في قراراتنا مجالا و إن كنتُ و صفاء ،لحظة الجد، لم نخلص لدروس قلبك..
تبسّمت هديل لكلام منال و أجابت مغيّرتا مجرى الحديث تماما، كمن يستفيق من سكر الوجع صباحا ناسيا كم في المساء من دمع على الخدّ جرى:
+ ترى، ماذا عن عنوان سلمى ؟ ألن تمنحينيه إلا بالطلب ؟
لم تستطع منال لحظتها أن تستوعب أبعاد السؤال، لكنّها أخرجت بلا تباطؤ من حقيبتها البيضاء قلما و مزّقت ورقة من مذكرة صغيرة كتبت على صفحتها العنوان و رقم الهاتف و دسّت الوريقة الصغيرة في جيب تنورة هديل الجينز ذات اللون الأزرق الغامق حين لاحظت أن هديل لم تناولها يدها،
لحظتها بادرت هديل منال بسؤال يتمسّك بطيف الأمل المتلاشي كما يتلاشى نور الشمس بعد الغروب:
+ ألن تكملي دراستك معي بالفوج لنلتحق جميعنا بـ "المعهد الأزرق" ؟
أجابت منال بتردد عن هذا السؤال الذي تمنّت ألا تسأله هديل:
- الحقيقة،..لا، لن أكمل دراستي، نفس الشيء ينطبق أكيد على صفاء.
و بمحاولةِ منها لتجاهل غصة ألم طوّقت حلقها، علّقت هديل تنشد أملا مستقبليا:
+ إذن أرجو أن تلتقي كتاباتنا يوما على صفحات مجلّته !
قالت هذه العبارة ثم ركضت محررة أحد ذراعيها من عناق الأوراق ملوحة به لمنال،
ثم أدارت ظهرها تواري عنها دموعا كزخات المطر،
لتصرخ منال بصوت يحاول أن يلحق بها:
- ألن تودعيني !؟
أجاب صوت هديل المتباعد:
+ اعذريني منال، لا أحب الوداع..!
و في ركضها انفلت دبوس شعرها الزهري ليرتطم بالأرض، لحظتها تناولته منال معانقة إياه و هي تنظر لشعر هديل البني الناعم الذي تحررت خصلاته المتموجة من قبضة الحزن الغامض ليراقص الريح رقص أميرة غجرية هاربة من أن أشباح تريدها قربانا لأحد آلهة الإغريق..!!
إلـــــــى الحلقــــــــــــة القـادمــــــــــــــــــــة